الإدمان الرقمي واضطرابات الصحة العقلية
في الطبعة الحادية عشرة من «التصنيف الدولي للأمراض» والمقرر لها أن تصدر العام الجاري، أدرجت منظمة الصحة العالمية للمرة الأولى «اضطراب الألعاب الرقمية» (Gaming Disorder) ضمن اضطرابات الصحة العقلية، في إشارة إلى ألعاب الفيديو، أو ألعاب الكمبيوتر، أو الألعاب الإلكترونية. وتصف مسودة «التصنيف» هذا الاضطراب على أنه نمط دائم أو متكرر من السلوك المفرط في ممارسة هذه النوعية من الألعاب، يبلغ من الحدة درجة طغيانه التام على الاهتمامات والأنشطة الأخرى.
ويأتي هذا الإجراء من قبل منظمة الصحة العالمية على خلفية قيام بعض الدول باعتبار الإفراط في ممارسة الألعاب الرقمية، قضية صحة عامة، بالغة الأهمية. ففي العديد من الدول، مثل بريطانيا، توجد عيادات خاصة لعلاج هذا الإدمان، وفي كوريا الجنوبية شرّعت الحكومة قانوناً يمنع الأطفال دون سن السادسة عشر من ممارسة الألعاب الرقمية «أون لاين» من منتصف الليل وحتى السادسة صباحاً، في أيام الدراسة، وفي أيام العطلات والإجازات المدرسية. بينما في اليابان، يتم تنبيه من يمارسون هذه الألعاب، إذا ما تخطوا عدداً محدداً مسبقاً من الساعات في الشهر الواحد، وعلى المنوال نفسه قامت أكبر شركة إنترنت في الصين، بتحديد عدد الساعات التي يمكن للأطفال خلالها ممارسة الألعاب الأكثر انتشاراً.
ويحتوي هذا «التصنيف الدولي للأمراض» على رمز لكل مرض أو اضطراب، مع توصيف أعراضه وعلاماته، ويستخدم التصنيف بشكل روتيني من قبل الأطباء والباحثين، لتشخيص الأمراض، ومتابعة مدى انتشارها وتطورها. وبالنسبة لاضطراب الألعاب الرقمية فينص التصنيف على أن ممارستها بإفراط، وبدرجة غير طبيعية، يجب أن يكون واضحاً وظاهراً، لفترة 12 شهراً على الأقل، كي يتم تشخيص الإصابة بهذا الاضطراب، وإن كان يمكن التشخيص في فترة أقل، إذا ما كانت الأعراض والعلامات واضحة وشديدة.
وتتضمن أعراض «اضطراب الألعاب الرقمية» ضعف القدرة على التحكم في عدد ساعات اللعب، أو عدد المرات، والانغماس غير الطبيعي وقت اللعب، مع احتلال الألعاب الرقمية لرأس قائمة اهتمامات الشخص، بالترافق مع تراجع الاهتمام بالأنشطة الأخرى، ليس فقط العمل أو الدراسة، بل أيضاً الأنشطة الترفيهية الأخرى، مثل لعب الكرة وغيرها من الرياضات، أو الخروج من المنزل وقضاء الوقت مع الأهل والأصدقاء، وربما حتى مشاهدة التلفزيون، مع استمرار تصاعد وتزايد حدة هذا السلوك رغم التبعات السلبية الواضحة على الحياة المهنية، أو الأداء الدراسي، أو العلاقات الاجتماعية.
ويمكن إدراك حجم التبعات الصحية لإدمان الألعاب الرقمية، وجميع أشكال ما يعرف بـ«الإدمان الرقمي» (Digital Addiction)، بما في ذلك إدمان استخدام الإنترنت، ووسائل التواصل الاجتماعي المختلفة، من ظهور تخصص طبي، يهتم العاملين فيه، بتشخيص وعلاج المدمنين الرقميين. ورحب هؤلاء بخبر إدراج إدمان الألعاب الرقمية ضمن التصنيف الدولي للأمراض، كونه يمنحهم الفرصة لإنشاء خدمات رعاية صحية متخصصة تتعامل بشكل مهني مع هذه القضية، بناء على أن الاعتراف العلمي بهذا الاضطراب، يجعل الجميع يأخذه على مأخذ الجد. وإن كان يحذر هؤلاء المختصون من وقوع لبس، بين الأطفال والمراهقين الذين يعشقون الألعاب الرقمية ضمن الحدود الطبيعية، وبين من يمكن أن يشخصوا بإصابتهم بالحالة الإدمانية، بحيث يمكن وصفهم بالمضطربين عقلياً.
وبعيداً عن اللعب الإلكتروني، يعتبر لعب الأطفال بأشكاله التقليدية المعتادة، مثل اللعب البدني كممارسة الرياضة أو ركوب الدراجات أو الجري والمرح، والذي يطلق عليه البعض اللعب الحقيقي (true play)، أو اللعب الذهني كألعاب الشطرنج والورق والألغاز -وهي أشكال اللعب التي نشأت الأجيال السابقة جميعاً عليها- فتعتبر من النشاطات ذات الفوائد الجمة. فعلى عكس النظرة الخاطئة لدى كثيرين بأن اللعب هو مجرد مضيعة للوقت، ينظر الخبراء للعب على أنه سلوك ترفيهي يعتمد على ممارسة التفاعل البدني والذهني مع العالم الخارجي، ويؤدي لتحقيق الكثير من الفوائد على صعيد النمو البدني والتطور الذهني والاجتماعي. ويمكن تلخيص فوائد اللعب بأشكاله المختلفة في الآتي: زيادة ذكاء الطفل. تنمية القدرات والمهارات الاجتماعية. تنمية قوة الإرادة وزيادة التحكم في السلوك الاندفاعي، خفض درجة التوتر، تطوير القدرة على التركيز والانتباه وتحسين قوة الذاكرة، تنمية القدرات البدنية والمهارات العضلية، ومساعدة الطفل على فهم كيفية عمل الأشياء المحيطة به، وتطوير المهارات الحسابية والتفكير المنطقي، وتطوير المهارات اللغوية وزيادة حجم المفردات، وتنمية القدرة على إظهار المشاعر، وعلى فهم أفكار ومشاعر الآخرين.