يحتاج العالم العربي إلى نظرية سياسية تجمع الأحلام العربية في سياق واقعي. هو سياق لا يحلّق في أعالي الأيديولوجيا، بل يعمل على الأرض، وفي متناول المنطق. ويمكن أن تكون «العروبة الجديدة» عنواناً لتلك النظرية.
ليست «العروبة الجديدة» إلغاءً لما كان من «عروبة قديمة».. بل هي تصحيح لمسارات تاهت وسط حركة العالم، وتحولات العلم والاقتصاد في الشرق والغرب.
لم تعد أطروحات ميشيل عفلق ورفاقه مناسبة للمستقبل ولا للحاضر، ولم تعد الصراعات الأيديولوجية القومية العربية مقبولة من النخب أو الشعوب، بل يجب أن تكون الفكرة العربية جامعةً لا ممزِّقة، وجسراً للتعاون لا أداة للصراخ والصدام.
قبل موجة ميشيل عفلق ومن معه، كانت هناك موجة العروبة التي قادتها مصر في النصف الأول من القرن العشرين، والتي يمثلها على نحو أفضل الزعيم المصري مصطفى النحاس باشا.
لقد كان حزب الوفد المصري هو من وقف وراء تأسيس الجامعة العربية، وخلق الشعور بالهوية العربية في العصر ما بعد العثماني، وإذا كان مشروع الزعيمين أحمد عرابي ومصطفى كامل في مصر تغلب عليه الطبيعة الوطنية، فإن مشروع النحاس باشا كان متسعاً في آفاقه، عروبياً في أهدافه، عاقلاً في خطواته.
لقد كان الرئيس عبد الناصر امتداداً لمدرسة النحاس العربية، لكن التأثيرات «البعثية» هى التي أربكت الخُطى، وأدّت إلى تبعثر المسار، وتشتُّت الجهود، ونشوب نزاع إيديولوجي عربي كان عبئاً على الجميع.
كان عبد الناصر صادقاً، ولم يكن «البعث» كذلك، وقد نالتْ اللاعقلانية «البعثية» من العقلانية الناصرية، وظل ذلك قائماً إلى أن كانت هزيمة 1967، فعادت مصر والعرب في قمة الخرطوم إلى رؤية النحاس والوفد، بعيداً عن رؤية عفلق و«البعث».
في منتدى دبي للإعلام 2025، سعدتُ بالحديث في جلسة وزراء الإعلام العرب، والتي ضمت معالي عبد الله آل حامد رئيس المكتب الوطني للإعلام بدولة الإمارات العربية المتحدة، ومعالي عبد الرحمن المطيري وزير الإعلام الكويتي، ومعالي بول مرقص وزير الإعلام اللبناني، ومعالي رمزان النعيمي وزير الإعلام البحريني، وهي الجلسة التي أدارتها الأستاذة هند النقبي من مؤسسة دبي للإعلام.
في المنتدى عرضتُ موجزاً لما أرى بشأن تجديد الطرح السياسي العربي، والعودة إلى أصل النظرية السياسية العربية، التي تأسست بموجبها الجامعة العربية في مارس عام 1945.
حين تأسست الجامعة العربية اقترحت سوريا أن يكون اسمها «التحالف العربي»، واقترح العراق أن يكون الاسم «الاتحاد العربي».. ورأت مصر أن اسم «الجامعة العربية» هو الأنسب سياسياً وواقعياً، والأكثر تعبيراً عن أهداف الجامعة العربية.
واليوم.. وإزاء الحملات المتعددة على صورة العرب، وتاريخهم وحضارتهم، وتأسيس كتائب إلكترونية للوقيعة بين الدول العربية، وإثارة الحروب الرقمية بين شعوبها، واستمرار بعضهم في التحليق في أعالى الأيديولوجيا، دون صدق في الهدف أو إخلاص في السعى. يتوجب على النخب العربية أن تعمل لبلورة أطروحة «العروبة الجديدة».. ونزع ما علق بها في الماضى من أهداف مؤسفة، كالسعي لإسقاط النظم، والتدخل في الشؤون الداخلية للبلدان العربية، واستخدام الإعلام في الاغتيال المعنوي للخصوم، والتحريض على التمرد والخروج.
يجب أن تكون «العروبة الجديدة» جامعة للعرب، مانعة للصراع. كما يجب أن تكون مستندة إلى العلم والعقل وبناء المصالح المشتركة والدعم المتبادل، لا أن تستند إلى مقولات فضفاضة، ومطالب غير جادّة، أو أن تضع أهدافاً عبثية لا دور لها سوى المزايدة على المنافسين، وإحباط الجماهير.. بعد يأسهم من تحقيق الأحلام البعيدة.
العروبة الجديدة هي تفاهم مشترك على نبذ التطرف والإرهاب، وتعزيز المعرفة والبحث العلمي، ودعم التعاون في مجالات الاستثمار، والصناعة والزراعة، والتدريب، ومكونات القوة الصلبة والناعمة.
العروبة الجديدة هى عروبة ما بعد الأيديولوجيا، هي عودة إلى البدايات، حيث الاعتزاز بالعروبة، وحيث الإيمان بهذه الأمة.. وإمكانية عودتها للإسهام في الحضارة المعاصرة، من دون أن يصبح العرب أعداء لبعضهم بعضاً ، أو أن ينتصر الزبد على ما ينفع الناس، ويمكث في الأرض.
*كاتب مصري


