يُعد التعايش أحد المرتكزات الجوهرية في بنية الفكر الإسلامي، ليس بوصفه مجرد فضيلة أخلاقية عابرة، بل باعتباره منظومة متكاملة تنبثق من التصور الإسلامي للوجود والإنسان. فالتعايش في الإسلام يرتبط ارتباطاً وثيقاً بفلسفة الخلق، التي تنظر إلى التعدد والتنوع بين البشر باعتباره سنة كونية وإرادة إلهية حاكمة للعلاقات الإنسانية. قال تعالى:﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ (هود: 118)، وهو تصريح قرآني صريح بأن التعدد أمر مقصود في الخلق وليس مجرد انحراف عن الأصل.

ومن هذا المنطلق، لا يمكن مقاربة التصور الإسلامي للإنسان والمجتمع بمعزل عن مبدأ التعايش، الذي يتجلى في النصوص التأسيسية للقرآن والسنة النبوية، ويُشكل القاعدة التي تنبني عليها قيم أخرى كالتعارف، والتعاون، والاحترام المتبادل. وقد نص القرآن بوضوح على ذلك في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾ (الحجرات: 13)، مما يؤكد أن الغاية من التعدد ليست الصراع، بل التعارف والتكامل. والتعايش في الإسلام ليس نتاج اجتهاداتٍ فقهيةٍ عابرة، بل هو مؤصل في أرفع مصادر التشريع الإسلامي. قوله تعالى:﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ (البقرة: 256)، يُعد قاعدة مركزية تنفي الإكراه وتؤسس لحرية المعتقد كحق أصيل يقتضي احترام وجود الآخر المختلف دينياً وثقافياً. كما أن التجربة النبوية قدمت نموذجاً عملياً في تأسيس مجتمع مدني تعددي، تجلى بوضوح في وثيقة المدينة، التي أُبرمت بعد هجرة النبي إلى المدينة المنورة.

هذه الوثيقة وضعت الأساس لعقد اجتماعي يعترف بتعدد الأديان والأعراق ويكفل الحريات الدينية والسياسية، ويحمي الحقوق المتبادلة بين مكونات المجتمع، من مسلمين ونصارى ويهود وغيرهم. وشكّلت سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، مرجعيةً حية للتعايش، إذ استقبل وفود الديانات الأخرى بالحوار والاحترام، كما حدث مع وفد نصارى نجران، الذين استقبلهم النبي وسمح لهم بإقامة شعائرهم في مسجده الشريف، وهو موقف يحمل دلالات عميقة في الاعتراف بالآخر الديني وشرعية وجوده. أما في خطبة الوداع، فقد أرسى النبي مبادئ المساواة والكرامة بقوله: «يا أيها الناس، إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب…»، في دعوة صريحة لتجاوز كل أشكال التمييز العرقي والديني والاجتماعي.

وعلى مستوى التراث الإسلامي، نجد عند الإمام علي بن أبي طالب رضى الله عنه، تأصيلاً فلسفياً للتعايش في قوله الشهير: «الناس صنفان: إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق»، وهو تعبير بليغ يجسد جوهر الأخوّة الإنسانية، التي تقوم على الاعتراف المتبادل بالكرامة بغض النظر عن الدين أو العرق. ففي ظل تعقيدات العالم المعاصر، حيث تتفاقم الصراعات الدينية والثقافية، تستعيد هذه المبادئ الإسلامية الراسخة أهميتها الاستراتيجية لبناء مجتمعات مدنية قائمة على التعددية واحترام الاختلاف. فتفعيل مبدأ التعايش اليوم يتطلب استحضار هذه الرؤية الإسلامية في بعدها الإنساني الكوني، بما يعزز قيم المواطنة المشتركة والحوار بين الأديان والثقافات، بعيداً عن التوظيف الأيديولوجي أو السياسي للدين.

إن التعايش في الإسلام ليس شعاراً، بل هو منظومة معرفية وأخلاقية وتشريعية متكاملة، تتأسس على الإيمان بوحدة الأصل الإنساني وحق الاختلاف، وتشكل مدخلاً ضرورياً لتحقيق السلم الاجتماعي وبناء حضارة إنسانية جامعة. وقد أدرك المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، هذه الحقيقة الراسخة، فجعل من قيم التسامح والتعايش حجر الأساس في بناء دولة الإمارات، التي باتت اليوم نموذجاً عالمياً يحتذى به في ترسيخ ثقافة التنوع والاحترام المتبادل بين جميع الشعوب والثقافات.

* مستشار برلماني