منذ تولي الرئيس دونالد ترامب منصبه، يسير الاقتصاد الأميركي وفق نمط معين، حيث تتخذ الإدارة إجراءات غريبة، مثل فرض تعريفات جمركية بمستويات لم نشهدها منذ قرن، ومحاولة إقالة محافظ الاحتياطي الفيدرالي، التي أثارت تحذيرات الاقتصاديين من المخاطر الجسيمة المحتملة.
ومع ذلك، استمر الاقتصاد في التحسن حتى الآن، ورغم انخفاض السوق بشدة في أبريل الماضي بسبب رسوم «يوم التحرير»، لكنه انتعش منذ ذلك الحين مرات عدة، مرتفعاً إلى مستويات قياسية جديدة 30 مرة العام الحالي. ولا يبدو أن السياسات المحفوفة بالمخاطر التي تُثير قلق الاقتصاديين السائدين تُحدث تأثيراً كبيراً على المؤشرات الاقتصادية التي نتابعها.
ورغم سياسات ترامب، وليس بسببها، يشهد الاقتصاد تحسناً إيجابياً، إذ إنه يتلقى دعماً قوياً من طفرة استثمارية ملحوظة في مجال الذكاء الاصطناعي. وتشير تقديرات موثوقة إلى أن الإنفاق الرأسمالي على الذكاء الاصطناعي قد يصل إلى 2% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2025، ارتفاعاً من 0.1% في عام 2022. ولتقدير حجم النمو، يعني ذلك استثمار يعادل نحو 1800 دولار عن كل فرد في أميركا هذا العام في الذكاء الاصطناعي. ومن دون هذه الاستثمارات، كان النمو الاقتصادي سيبلغ حوالي 1% العام الحالي، حسب التوقعات. ومن المرجح أن يصل إلى ضعف ذلك تقريباً حالياً، وهناك سبع شركات تقنية كبرى فقط مسؤولة عما يقرب من 60% من مكاسب مؤشر ستاندرد آند بورز 500 هذا العام.
ويمنح هذا البريق الاصطناعي الإدارة فرصة لمضاعفة أفكارها السلبية، فقد عاد معدل التعريفات الجمركية الإجمالي الفعلي في أميركا تقريباً إلى المستويات التي أُعلن عنها في أبريل الماضي، ودعا نائب الرئيس الإدارة إلى التدخل في قرارات مجلس الاحتياطي الفيدرالي بشأن أسعار الفائدة، كما أقال ترامب رئيس مكتب إحصاءات العمل بعد تقرير وظائف مخيب للآمال.
ويعتبر الأمر أسوأ من وضع البيض كله في سلة واحدة، إذ إنه أقرب إلى سحق جميع السلال الأخرى بعد ذلك. وهناك مؤشرات على أن الاقتصاد غير المرتبط بالذكاء الاصطناعي يعاني ضغوطاً شديدة. وكما توقع الاقتصاديون، فإن الرسوم الجمركية ترفع معدلات التضخم وتُبطئ النمو. وقد توقف التوظيف وأصبحت الوظائف نادرة للشباب في سوق العمل، حيث بلغت بطالة الشباب 10.5%، وهو مستوى لم نشهده منذ نحو عقد، باستثناء فترة الجائحة. ومن المرجح أن تتفاقم تلك المشكلات بسبب طفرة الذكاء الاصطناعي لا أن تقل. فقد أشار رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي في مينيابوليس، نيل كاشكاري، مؤخراً إلى أن تشغيل مراكز بيانات الذكاء الاصطناعي لا يتطلب أعداداً كبيرة من العمال، رغم الحاجة إلى استثمارات ضخمة لبنائها.
ومن غير المنطقي النظر إلى هذين القطاعين من الاقتصاد بشكل منفصل. فلو لم تكن هناك مراكز بيانات لبنائها، لتدفقت الأموال إلى أنواع أخرى من الاستثمار. وقد تُعيق هيمنة الذكاء الاصطناعي قطاعات أخرى من الاقتصاد، كما حدث في طفرة الإنترنت في التسعينيات، حين واجهت شركات التصنيع الصغيرة صعوبة في الحصول على رأس المال الذي تدفق إلى كل شركة تجارة إلكترونية مُتاحة، بعضها أكثر نجاحاً من غيرها. لكن ما يبدو واضحاً أن هناك قوتين اقتصاديتين تشدان في اتجاهين متعاكسين. فحرب ترامب التجارية وهجماته على مؤسسات مثل الاحتياطي الفيدرالي تثير قلق المستثمرين وتشكك الشركات وتُضعف الاقتصاد. كما أن تباطؤ الهجرة يترك أثراً ملحوظاً، فقد كانت التوقعات الاقتصادية العام الماضي تشير إلى أن الاقتصاد سينمو بنسبة 3% بحلول عام 2034، بناء على افتراضات قديمة لم تعد قائمة حول تدفق المهاجرين. إلا أن فوائد الذكاء الاصطناعي قادرة على تعويض هذا التباطؤ الناتج عن السياسات.
ويمكن الإستفادة من أحدث طفرة تكنولوجية، ففي أوائل التسعينيات، كان نمو الإنتاجية في العمل بطيئًا، أقل من 1%، لكنه ارتفع إلى 3% مع نهاية العقد بفضل ثورة الحوسبة والإنترنت، وهو ما ساعد الاقتصاد الأميركي على الازدهار، ودعم الحكومة الفيدرالية لتوازن ميزانيتها للمرة الأولى في التاريخ الحديث. وما يحدث اليوم يشبه ذلك. لكن الرؤساء لا يتحكمون في الدورات الاقتصادية، ولا يستطيعون تغيير الاتجاهات الديموغرافية أو خفض أسعار الغذاء. ففي فترات الازدهار، يحصل السياسيون على إشادات أكثر مما يستحقون، وفي أوقات الأزمات، يتعرضون للوم أكثر مما يستحقون. أما الآن، فأصبحت السياسات السيئة تنال من اللوم أقل مما تستحق. إذ تشير التقديرات إلى أن الرسوم الجمركية وحدها تجعل الاقتصاد أصغر بنحو 0.4% مما كان سيكون عليه، نتيجة انخفاض الإنتاجية والاستثمار.
ولا تعني الاستفادة المحتملة من التقدم التكنولوجي أن آليات الاقتصاد التي يمكننا التحكم بها غير مهمة، أو أن سوء إدارتها لن يسبب ضرراً في النهاية. وقد نشهد نزوحاً واسع النطاق للقوى العاملة، وقد تُوسع الأتمتة فجوة التفاوت العالمي، وربما تلوح أزمة مالية في الأفق. فشركات التأمين المدعومة برؤوس الأموال الخاصة توجه أقساط حاملي وثائق التأمين نحو استثمارات الطاقة والبنية التحتية اللازمة لدعم طفرة الذكاء الاصطناعي، مثلما مولت البنوك قبل الأزمة المالية طفرة الرهن العقاري التي لم تكن تدركها بشكل كامل. وبتعبير أكثر بساطة، قد يستغرق الذكاء الاصطناعي وقتاً ليصل إلى إمكاناته التحويلية. ففي عام 1987، قال الخبير الاقتصادي روبرت سولو مازحاً: «يمكنك رؤية عصر الحاسوب في كل مكان إلا في إحصاءات الإنتاجية». وتحققت تلك المكاسب فعلاً، لكن تبلورها استغرق سنوات. وغالباً ما تعاقب الأسواق صانعي السياسات، إلا أن طفرة الذكاء الاصطناعي تخفي مشاكل حقيقية. ولتجاوز تلك المرحلة بسلاسة، يجب وضع سياسات تُوسع الاقتصاد وتجعله أكثر مرونة.
*أستاذة القانون بكلية الحقوق في جامعة يل ومستشارة سابقة لوزيرة الخزانة جانيت يلين. ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»


