بعد أن وضعت الحرب على غزة أوزارَها، اتجهت الأنظار مجدداً نحو شرم الشيخ بحثاً عن الضمانات والحلول الملزمة، ومعالجة أسباب الصراع لمنع انهيار اتفاق الهدنة في مراحله الأولية. وحتى الآن، لم يتم التوافق بعد على بقية مراحل خطة السلام، التي عرضها الرئيس الأميركي، ولم يتم التوافق على مسائل جوهرية عالقة، مثل إعادة الإعمار والأمن والمستقبل السياسي لقطاع غزة ضمن الدولة الفلسطينية المنشودة. القمة عُقدت برئاسة مشتركة بين الرئيسين المصري عبد الفتاح السيسي والأميركي دونالد ترامب، وبمشاركة قادةِ وممثلي دول عدة، سعياً إلى إنهاء الحرب وتعزيز جهود إحلال السلام والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، وفتح صفحة جديدة من الأمن والاستقرار الإقليمي.
لا شك في أن القمة حملت تطوراً إيجابياً، وحظيت بزخم كبير، وراهن الخبراءُ والمحللون على نجاحها في فرض السلام على الطرفين، بعد حرب أحدثت تداعيات جيوسياسية بعيدة المدى طالت العالَمَ كلَّه وليس الشرق الأوسط فحسب، فللمرة الأولى منذ عقود تتفق كل القوى العالمية الكبرى والدول الإقليمية على إنهاء الحرب المشينة التي شهدت أبشع جرائم الإبادة بالقتل والتجويع.
وللتوثيق نذكر، على مدار عامين عايشنا أهوال الحرب ومَشاهدَها التي قلبت العالمَ رأساً على عقب، رفضاً لفظائع الحرب التي شنّها جيش الاحتلال الإسرائيلي، ودعماً لحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، وهو ما ظهر بوضوح في الأسابيع القليلة الماضية مع الاعترافات المدوية بالدولة الفلسطينية من دول مؤثرة في العالم مثل بريطانيا وفرنسا وكندا وأستراليا، وتأكيد العديد من زعماء العالم بأن «حل الدولتين» هو السبيل الوحيد لإنهاء الصراع المزمن في المنطقة. ولأنني لست ممن يبيعون الأوهام، فالمشهد على الأرض لا يبعث على التفاؤل، فمنذ دخول اتفاق وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، والتطورات الميدانية مقلقة، سواء في غزة أو في لبنان، حيث يواجه القطاع فصلاً جديداً من العنف الداخلي، مع تنفيذ ميليشيات «حماس» إعدامات ميدانية في محاولة لتثبيت سيطرتها، وانتشر مقطع فيديو على وسائل التواصل الاجتماعي يظهر أفراداً ملثمين ينتمون للميليشيات، وهم يطلقون النار من بنادق رشاشة على ما لا يقل عن سبعة رجال بعد إجبارهم على الركوع في الشارع. المشهد مفزع وأتمنى ألا يكون بدايةً للدخول في دوامة حرب أهلية، لم يعُد في مقدور مئات آلاف الفلسطينيين تحمل عواقبها، إلى جانب أن اتفاق وقف إطلاق النار مازال تحت الاختبار، ويمكن اعتباره «سلاماً هشاً» من الوارد جداً أن ينهار في أي لحظة مع بوادر انتكاسة في تنفيذ الاتفاق من الطرفين.
على الجانب الآخر، فما إن بدأ سريان وقف إطلاق النار في القطاع، حتى صوّب الجيش الإسرائيلي نيرانه نحو لبنان، الأمر الذي دفع الرئيس اللبناني جوزيف عون إلى التساؤل عما إذا كان هناك مَن يفكر بتعويض غزة في لبنان، لضمان حاجته لاستدامة الابتزاز السياسي بالنار والقتل، مشيراً إلى نتنياهو وحكومته اليمينية المتطرفة التي قد ترى في الحرب على لبنان حاجةً لاستمرار وجودها في السلطة.
هذه التطورات المؤسفة ينبغي علينا أن نأخذها على محمل الجد، وأجدني مضطراً إلى الاعتراف بأنني شخصياً لا أثق في طرفي الصراع (سواء ميليشيات «حماس» أو حكومة نتنياهو) وتكاد تكون مصداقيتهما - وفقاً لمعطيات الواقع - صفراً كبيراً، فكلاهما لا يبحث إلا عن تحقيق مآربه الخبيثة دون الاكتراث لما يخلّفه من ضحايا وآثار سلبية.
بيد أنه من تجليات اللحظة والصدف ذات الدلالة، تزامن انعقاد القمة مع ذكرى مرور عامين على إعلان دولة الإمارات إطلاقَ حملة «تراحم من أجل غزة»، التي شكّلت باكورةَ الجهود والمبادرات الإماراتية المتواصلة منذ أكتوبر 2023 لإغاثة الأشقاء الفلسطينيين المتأثرين بالحرب في قطاع غزة، وللحد من تداعياتها الإنسانية عليهم، حيث شكّلت المساعداتُ الإماراتية، وفق التقارير الأممية، نسبة 44% من إجمالي المساعدات الدولية إلى غزة حتى الآن، وهو ما جعلها في صدارة دول العالم الداعمة لأهل غزة بشكلٍ خاص، وللعمل الإنساني بشكلٍ عام.
وإلى جانب جهودها الإنسانية، قادت الإمارات جهوداً دبلوماسيةً مكثفةً بالتعاون مع شركائها الإقليميين والدوليين لمنع تصاعد حدة العنف وتوسّع دائرته، وبادرت الدولة بإعلان دعمها خطة ترامب كونها تقود لإنهاء الحرب، وإعادة إعمار غزة، ومنع تهجير الشعب الفلسطيني، ودفع عجلة السلام الشامل.
لستُ من دعاة التشاؤم، فالسلام ليس مستحيلاً، لكنه يحتاج إلى إرادة سياسية حقيقية من جميع الأطراف، وإلى رؤية استراتيجية شاملة تتعامل مع جذور الصراع وليس أعراضه فقط، كما يحتاج إلى قيادات شجاعة قادرة على تخطي الحسابات السياسية الضيقة وتبني مصالح الأجيال القادمة.


