مع تجاهل الرئيس دونالد ترامب إرسال وفد أميركي إلى بيليم بالبرازيل، تابعت بشغف خلال الأيام الماضية فعاليات قمة المناخ (كوب 30)، وقد ارتفع منسوب الأمل، وتبددت الشكوك التي ساورتني بشأن انهيار التحالف الدولي الذي تشكل خلال السنوات الماضية من أجل إنقاذ الكوكب في أعقاب انسحاب الولايات المتحدة الأميركية من اتفاقية باريس للمناخ، وأثبت الزخم الدولي قدرته على تجاوز الأزمة، وظهرت قوة حضور أطراف أخرى بدت حريصة على مواصلة الجهود لمعالجة قضية الاحتباس الحراري. تحليل المشهد الدولي في أعقاب مؤتمر الأطراف الثلاثين (كوب 30) يكشف عن تحولات وتطورات إيجابية بشأن تكاتف المجتمع الدولي وقدرته على التكيف مع مأزق الانسحاب الأميركي، ويمكن القول إن العديد من الأطراف الدولية أظهرت إصراراً كبيراً على مواصلة العمل، ورفض الاستسلام وتعويض غياب الولايات المتحدة الأميركية.
وبما لا يدع مجالا للشك، لم يكن انسحاب أميركاً أمراً بسيطاً، بل في الواقع أحدث هزة في أركان النظام المناخي الدولي، ذلك أن الولايات المتحدة هي عملياً - ثاني أكبر مصدر للانبعاثات عالمياً - وقد أعاق انسحابها التقدم في بعض المجالات الحيوية (التمويل مثالاً) ،وأضعف الإجماع السياسي، ما يجعل تحقيق أهداف باريس أكثر صعوبة.
بيد أن هذا الوضع حفز دولاً أخرى على القيادة، وعزز من دور المدن والقطاع الخاص، وأظهر إصراراً عالمياً على المضي قدماً في العمل المناخي رغم كل التحديات، فلم تشهد الساحة الدولية انهياراً جماعياً للالتزام المناخي، بل برزت استجابات قوية من فاعلين رئيسيين، كان أبرزهما الصين، والاتحاد الأوروبي. لكن المفاجأة اللافتة جاءت من داخل الولايات المتحدة نفسها، حينما تحول «الزخم المناخي» من المركز (واشنطن) إلى الأطراف، حيث شكل الانسحاب الفيدرالي حافزاً لحراك غير مسبوق على مستوى الولايات والمدن والقطاع الخاص، وشكل حكام ولايات كبرى مثل كاليفورنيا ونيويورك «تحالف المناخ الأميركي»، ملتزمين بتحقيق أهداف باريس على مستوى ولاياتهم، كما التزمت مئات المدن وآلاف الشركات الخاصة بمعايير الطاقة النظيفة.
وخلال قمة كوب 30 توالت التقارير التي تؤكد خطورة ظاهرة الاحتباس الحراري وضرورة التصدي لها، أحد هذه التقارير كشف أن البشرية تكبدت خسائر في قطاع الزراعة تجاوزت 3 تريليونات دولار خلال العقود الثلاثة الماضية، بسبب التغيرات المناخية، وما نتج عنها من كوارث طبيعية، كالجفاف والفيضانات. وتشير بيانات منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) إلى تدمير ما يقرب من 5 مليارات طن من الحبوب، وحوالي 3 مليارات طن من الفاكهة والخضراوات، وما يقرب من مليار طن من اللحوم ومنتجات الألبان بين عامي 1991 و2023، ويوضح التقرير الصادر بعنوان «تأثير الكوارث على الزراعة والأمن الغذائي 2025» أن القطاع الزراعي خسر نحو 100 مليار دولار سنوياً، بما يعادل نحو 4% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، خلال الفترة نفسها.
لكن أبرز ما ميز قمة بيليم بحسب المراقبين، تمثل في ارتفاع أصوات الجزر المهمشة التي تنتظر مصيراً مأساوياً في ظل تسارع وتيرة الاحتباس الحراري وذوبان الجليد، واستمع العالم لصرخات ماينا فاكافوا تاليا وزير المناخ في دولة توفالو الصغيرة حينما قال: «لا يمكننا أن نلتزم الصمت بينما تغرق جزرنا، ولا يمكننا أن نلتزم الصمت، بينما يعاني شعبنا».
صرخات «تاليا» دعمها تقرير أطلقته المبادرة الدولية للمناخ، كشف حقائق مروعة حول تسارع ذوبان الجليد عالمياً، وجدد فيه الخبراء تحذيرهم من مخاطر حتمية تهدد مدن العالم الساحلية، فالذوبان الجاري حالياً مذهل في سرعته وضخامته، إذ تخسر جزيرة غرينلاند وحدها على سبيل المثال نحو 30 مليون طن من الجليد كل ساعة. هذا الذوبان يُعد المحرك الأكبر لأحد أخطر الآثار طويلة الأمد لأزمة المناخ (ارتفاع مستوى سطح البحر الذي يهدد بإغراق المدن والبلدات المطلة على السواحل حول العالم)، وهو ما دفع الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، للتحذير من أن ارتفاع مستوى البحار يُنذر بـ «نزوح جماعي لشعوب بأكملها على نطاق هائل».
كعادتها جددت دولة الإمارات أمام القمة، التزامها الراسخ بالعمل المناخي متعدد الأطراف، مؤكدةً أهمية تحقيق التقدّم الجماعي، وتعزيز الشراكات الدولية من أجل تسريع وتيرة التنفيذ العالمي، وتحقيق هدف إبقاء الاحترار العالمي عند 1.5 درجة مئوية، مؤكدة حرصها البالغ على بناء توافق دولي، وتعزيز الطموح المناخي الجماعي من خلال التعاون، وبناء الثقة كأساس للتقدّم المشترك. أزمتنا كبيرة وخطيرة، لكن الأمل مازال يحدونا في تجاوزها والتعافي من آثارها السلبية فقط بتكاتف المجتمع الدولي، والتعاطي بجدية قبل فوات الأوان.


