يوم الشهيد في الثلاثين من نوفمبر ليس مجرد وقفة عابرة في الأجندة الوطنية، ولا دقيقة صمتٍ نؤديها ثم نعود إلى صخب الحياة من جديد، فهذه الدقيقة في حقيقتها لحظة انتقال بين زمانين: زمن البطولة التي صنعها شهداء الوطن في الميادين، وزمن المسؤولية التي نحملها نحن في الحاضر والمستقبل. يوم الشهيد هو الجذر العميق الذي يغذِّي شجرة البقاء تحت سقف البيت المتوحد، كي نبني حاضرنا، ونستشرف مستقبل وطن أكثر تطوراً ونموّاً. وتضحيات شهدائنا ليست خاتمة الحكاية، وإنما هي البداية التي نمضي فيها، إنها حكاية أيام ثلاثة تحمل رموز الوطن، وكأنها أسوار حمايةٍ لمقدراته في ظل قيادتنا الرشيدة.
يوم العلم، ويوم الشهيد، ويوم الاتحاد.. ثلاثة أيام تحمل دلالات عميقة: في يوم العَلم نرفع الراية عالياً، ونردِّد النشيد الوطني (عيشي بلادي)، ونشعر بذلك الفخر حين تقع أعيننا على ألوان العلم وهي تملأ الفضاء الممتد ما بين السماء والأرض. وقد يبدو المشهد بسيطاً، ولكنه في جوهره تجديدٌ لعهد الانتماء إلى هذا الوطن العظيم، دولة الإمارات العربية المتحدة، والولاء لقيادتنا الرشيدة، والاستعداد لحماية خفقان هذه الراية بكل أشكال التضحيات في جميع ميادين الحياة.
حين أتأمل ألوان العلم أجد الأحمر ليس لوناً تجميليّاً، بل هو ذاكرة الدم الوطني الذي بُذل في سبيل أن يبقى هذا الوطن آمناً وقوياً وحامياً لمقدراته. والأخضر ليس مجرد لون يرمز إلى الطبيعة، بل يشير إلى دولة تنمو، وتتطور، وتسعى إلى تحقيق الاستدامة، وبناء بيئة آمنة لكل إنسان يعيش على هذه الأرض الطيبة. والأبيض رمز لسلام يُصان بالعدل والقيم والتعايش، وبناء جسور تفاعلٍ مع كل تلك الثقافات التي تحيا معنا على الأرض نفسها في سلام ووئام. أما الأسود، فليس رمزاً للحزن، وإنما إشارة إلى الصلابة وقوة عزيمة الإنسان الإماراتي في مواجهة التحديات.
حين نفهم ألوان العلم بهذا العمق ندرك أن يوم الشهيد ليس بعيداً عن يوم العَلَم، وأن كليهما يمهِّد لمعنى أعمق نعيشه في اليوم الوطني. وبين الثلاثين من نوفمبر، والثاني من ديسمبر، جسر عميق نقرأ على جانبيه أنه لا يمكن أن نحتفي بالتقدم والازدهار والأمن والأمان من دون أن نعي حجم التضحيات التي بُذلت من أجل ذلك. عندها تتحول الوطنية من مجرد شعارٍ رنان إلى مسؤوليةٍ يومية، ومن إرثٍ مستحَق فحسب إلى عهدٍ نختاره ونجدد التزامنا به كل صباح.
في عصر الذكاء الاصطناعي واقتصاد المعرفة يجب أن تتسع رؤيتنا لمفهوم التضحية من أجل الوطن، فالتضحية ليست في الميادين العسكرية وحدها، بل هي مسؤولية في ميادين العمل والحياة أيضاً. وانطلاقاً من رؤية صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، بأن الإنسان هو الثروة الحقيقية للوطن، فإن الرهان اليوم هو على الإنسان القادر على بناء اقتصاد ما بعد النفط، وترسيخ مكانة الدولة في مؤشرات التنافسية العالمية.
وحين نرفع العَلم، ونحتفل باليوم الوطني، لنتذكرْ دائماً أن الراية ليست مجرد قطعة قماشٍ ملونة، بل هي أمانةٌ متوارَثة رُفعت بالوفاء والتضحية. ومن الواجب علينا أن نسلمها للأجيال القادمة كما ورثناها قويةً عزيزةً خفاقة، تحمل في رفرفتها صمت الشهداء، وتحفظ حكاية وطنٍ اختار أن يكون المجد فيه فعلاً يومياً، لا مجرد شعارٍ على الجدار.
*باحثة إماراتية في الأمن الاجتماعي والثقافي، أستاذ زائر بكليات التقنية العليا للطالبات، أستاذ زائر بجامعة الإمارات العربية المتحدة.


