منذ حملته الانتخابية الرئاسية عام 2017، لم يخف إيمانويل ماكرون قط طموحاته الكبيرة لتغيير فرنسا. وقدم ماكرون، وهو مصرفي استثماري سابق، لفكرة أن فرنسا «دولة المشروعات الناشئة»، مؤيداً الحماس الرأسمالي لمشروعات وادي السيليكون في بلد يحتفي بتقاليده الراسخة. وفي وقت مبكر من رئاسته، نجح ماكرون في أن ييسر على الأنشطة الفرنسية الصغيرة تعيين وفصل الموظفين. وفي وقت مبكر من العام الماضي، ركز ماكرون انتباهه على ما يعرف في فرنسا باسم «أم كل الإصلاحات»، وهو إصلاح نظام البلاد الشهير بسخائه في التقاعد.
وبعد أن قدم ماكرون مشروعه للإصلاح الذي يحول نظاماً يثير الدوار يضم 42 برنامجاً مختلفاً للتقاعد إلى برنامج واحد قائم على النقاط، شهدت البلاد شهرين من الإضرابات الطاحنة في صيغة فرنسية للمسرح الشعبي. وبتحريض من نقابات العمال الفرنسية، توقفت خطوط القطارات المحلية والقومية، بل وألغيت بعض الرحلات الجوية في الوقت الذي نزل فيه العمال إلى الشوارع للاحتجاج على معاشاتهم وسن التقاعد القومي. ومضى ماكرون في طريقه مقدِّماً القليل من التنازلات الصغيرة.
وانتهت الإضرابات تقريباً الآن. لكن مع عودة الأمور تدريجياً إلى طبيعتها، لا يمكن القول بأن الرئيس (42 عاماً) خرج منتصراً بشكل كامل ولا النقابات فشلت. وفي مناخ من التوتر الشديد، يستمر الصدام بين قصر الإليزيه وبين الشارع، لكن بطريقة مختلفة. ورغم انتهاء إضرابات عمال النقل فيما يبدو، مازالت هناك اشتباكات عنيفة بين الشرطة والمحتجين. وتضمنت الأحداث التي تصدرت العناوين في الأيام القليلة الماضية، مشهداً نادراً وقف فيه عمال الإطفاء الذين يحتجون على تعديلات الحكومة المقترحة على برامج تقاعدهم في مواجهة أفراد الشرطة القومية، الذين استخدموا القنابل المسيلة للدموع ومدافع المياه ضد عمال الإطفاء الذين يعتبرون من بين أكثر الموظفين العموميين تمتعاً بالاحترام في فرنسا.
وفي هذا الشهر أخيراً، يبحث البرلمان الفرنسي مشروع الإصلاح الذي تقدم به ماكرون. ويتوقع أن يتعرض المقترح لهجوم من أعضاء في أحزاب المعارضة الصغيرة لكن عالية الصوت. ويرجح أن ينضم إلى المعارضة بعض أعضاء حزب «الجمهورية إلى الإمام» الذي ينتمي إليه ماكرون والذي يتمتع بأغلبية مطلقة في الغرفة الأدنى من البرلمان.
ويرى برونو كوتري، أستاذ العلوم السياسية في جامعة «بو» في باريس، أنه «لا يوجد فائز. هناك بالفعل فيما يبدو أسئلة لا يريد الفرع التنفيذي للسلطة الإجابة عليها في هذا الإصلاح، مثل كيفية تمويل الإصلاح والمكاسب الحقيقية للفرنسيين». ويرى كوتري أن المشكلة الحقيقية تتعلق بالاتصال. ومضى يقول: «هناك عدد من الصور النمطية عن فرنسا وبخاصة أننا لا نرضى أبداً. لكن يتعين استيعاب أننا بلدٌ للصراع السياسي الاجتماعي أهميةٌ فيه. ومسألة العدل الاجتماعي ذات وقع قوي على الأذن الفرنسية».
وتميز النصف الأول من رئاسة ماكرون باحتجاجات شبه دائمة. فقد ظهر في البداية ما عرف باحتجاجات «السترات الصفراء» في عامي 2018 و2019، وهي حركة هلامية احتشدت في البداية ضد الضريبة على الكربون المثيرة للجدل. ثم أصبحت فيما بعد انتفاضة عامة ضد عدم المساواة الاجتماعية، ثم ضد ماكرون نفسه بمجرد أن سحب الإليزيه الضريبة محل الجدل.
وفي ذروة احتجاجات «السترات الصفراء»، دمّر المحتجون واجهات المتاجر في أنحاء العاصمة الفرنسية وخربوا بعض معالم باريس الأثيرة مثل قوس النصر. ثم جاءت احتجاجات عمال النقل في الآونة الأخيرة في أطول إضراب تشهده فرنسا منذ عقود. وفي ذروة موسم الكريسماس، عرقلت هذه الإضرابات السفر لمئات الآلاف من الأشخاص. وبعض العمال مكثوا في منازلهم وأعلنت عدد من الأنشطة الاقتصادية الصغيرة إغلاقها. وأثرت هذه الإضرابات على اقتصاد البلاد. والمثير للسخرية أن إدخال ماكرون الإصلاحات المؤيدة للأنشطة الاقتصادية، ربما جعل «دولة المشروعات الناشئة» مقصداً أقل جاذبية للمستثمرين الأجانب مما كانت عليه من قبل.
ويوم الجمعة الماضي، نشر المعهد القومي للإحصاء والدراسات الاقتصادية في فرنسا بيانات تشير إلى انخفاض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 1% خلال الربع الأخير من 2019، مقارنة بنمو بلغ 3% خلال الربع الثالث من العام نفسه. وأقرت الحكومة الفرنسية بضعف النمو، لكنها ترى أنه ضعف مؤقت. وصرح وزير المالية الفرنسي برونو لومير أن «الإضرابات في ديسمبر عرقلت نمو فرنسا في الربع الأخير من 2019. فقد تأثرت بعضاً من بنيتنا التحتية مثل المواني وشبكة السكك الحديد ومحطات التزود بالوقود». ويرى كوتري، أستاذ العلوم السياسية، أن الحكومة روجت لمشروع الإصلاح باعتباره ضرورياً، لكن لتضمنه تفاصيل دقيقة، لم يفهمه الناخب المتوسط. ومضى يقول: «لا أحد في فرنسا يستطيع أن يقول ما هو بالضبط».
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»