كانت والدتي تقول لنا دائماً: «يوم بتعطون حد شيء لابد أن يكون لديكم ما يكفي جميع الموجودين حتى لا يشعر أحد بأنكم استثنيتموه من حيز الوجود.. تذكروا أن جبر الخواطر أفضل من كسرها»، تلك عبارات سيدة توفي زوجها وهي في عز الشباب، ورفضت أن ترتبط بغيره حتى لا يتعرض لأطفالها أو يكسر خواطرهم بكلمة. منذ تلك الأيام وأصداء كلماتها في آذاننا، وأرى الجمال في كل شيء في البشر ولا توجد مقاييس أو درجات أو مواقع. مثال ذلك أني رأيت ابن أحد الزملاء، وقد رافق والده عند نهاية الدوام، لوح لي بيده مسلماً وبادلته التحية عن بُعد، ولم أزل عيني عن الصبي حتى وجدته ووالده يقفان أمامي، فقلت للأب: «هذا هو الاستنساخ بعينه.. يالهذا الشبه وكأن الزمان عاد بك إلى الطفولة!»، ابتسم بكل فخر وقال: «كيف حالك دكتورة؟ هذا ابني»، نظرت إلى الصبي وقلت له: «إن والدك من أفضل الرجال والزملاء الذين أعمل معهم، عليك أن تركز على تعليمك لتصبح مثله، وربما في مقامٍ نحن نريده لك»، ابتسم الفتى وقال: «إن شاء الله خالتي»، نظرت في عين والده فوجدتها مليئة بالاعتزاز بنفسه وبابنه وبالإطراء الذي جاء صادقاً وفي محله. هؤلاء الزملاء نور المكان وبهجة اليوم ورفقتهم سرور ومودة.
***
هناك من يحلم بالشهرة والعظمة والخبرة، فتنام ضمائرهم وتستتر ويتمارضون، ولكنهم يصدحون بأعلى أصواتهم، ويتغيبون عن العمل ليقدموا عملاً يفترض أنه ذو جدوى. يقول ابن العربي: إن السارق هو فَاعِلٌ مِنْ السَّرِقَةِ، وَهُوَ كُلُّ مَنْ أَخَذَ شَيْئًا عَلَى طَرِيقِ الِاخْتِفَاءِ عَنْ الْأَعْيُنِ، لَكِنَّ الشَّرِيعَةَ شَرَطَتْ فِيهِ سِتَّةَ مَعَانٍ أهمّها الْعَقْلُ: لِأَنَّ مَنْ لَا يَعْقِلُ لَا يُخَاطَبُ عَقْلًا. نتحدث هنا عن سرقة الوقت الذي ثمنه يأتي عند غرة كل شهر. إن سلوكيات كهذه تكسر خاطري فقد ضاع العلم والأدب وما بينهما من تربية في هوامش ومساعٍ لا تعرف للمجد مكاناً.
***
للعارفين أقول: أغرقت نفسي في محبة من يودني، واكتشفت أن اللطف رحمة ولين القلب رزق وجمال الإنسان من آيات خلق الله. إذاً أقسمت أن أفعل كل ما هو جميل لبلادي، وأبذل في سبيلها الغالي والنفيس والمال والولد، وأن لا أترك شيئاً إلا فعلته.. حتى أذوق الموت.