إذا كانت أسباب سقوط النظام السوري، نتيجة طبيعية لتراكم الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فإن الأسباب العسكرية كانت الضربة القاضية، بمفعولها الاجتماعي، مع فرار جيش النظام، نتيجة تداعيات الانهيار المالي، وخسارة الليرة السورية أكثر من 99.6% من قيمتها. حتى أصبح راتب العسكري، أو موظف الحكومة عموماً نحو 25 دولاراً شهرياً، وبما يغطي نحو أسبوع واحد فقط من حاجته الغذائية.

ومع انهيار أنظمة الغذاء والبنية الأساسية، أصبح يعاني نحو 13 مليون سوري من الجوع الشديد، وارتفاع نسبة الذين يعيشون تحت خط الفقر إلى 90%، منهم 7.5مليون طفل، يحتاجون إلى المساعدة الإنسانية. والأمر الذي زاد من تفاقم مخاطر تلك الأزمات، تداعيات الحصار الاقتصادي الذي فرضته على سوريا، العقوبات الغربية والأميركية وخاصة «قانون قيصر»، وقابله إصرار النظام على رفض إجراء الإصلاحات المطلوبة لرفع هذه العقوبات، ما أدى إلى خسارة الاقتصاد السوري 24 عاماً من التنمية البشرية، وانخفاض الناتج المحلي الإجمالي من 61.3 مليار دولار عام 2011 إلى 7.4 مليار دولار في عام 2023، أي أنه خسر 53.9 مليار دولار، وهذا التراجع الكبير انعكس سلباً على نصيب المواطن السوري الذي انخفض من 2748 دولاراً إلى 300 دولار فقط. ولوحظ أنه قبل سقوط نظام الأسد، صدرت موازنة العام 2025، بقيمة تعادل 3.5 مليار دولار، وتحمل عجزاً مالياً بنسبة 21%، من دون أن تحدد كيفية سد هذا العجز، علماً أن حجم هذه الموازنة ضئيل جداً مقارنة بموازنة العام 2010 البالغة نحو 17 مليار دولار.

ولكن رئيس الحكومة الجديدة محمد البشير تجاهلها، وأصدر قراراً باعتماد مبدأ الموازنة الاثنى عشرية للسنة المالية الحالية، استناداً إلى اعتمادات السنة المالية الماضية، لتسييرالإنفاق الحكومي بشكل مؤقت. وفي الوقت ذاته أعلن وزير المالية محمد أبا زيد أن الحكومة ستزيد رواتب نحو 1.3 مليون موظف في القطاع العام بنسبة 400%، بدءاً من فبراير المقبل، وتقدر تكلفتها بنحو 127 مليون دولار، وستموّل من خزانة الدولة، ومزيج من المساعدات الإقليمية واستثمارات جديدة، إضافة إلى فك تجميد الأصول السورية الموجودة في الخارج، والتي تقدر بنحو 400 مليون دولار.

ولأول مرة، رفع مصرف سوريا المركزي سعر صرف الليرة مقابل الدولار بموجب نشرة رسمية أصدرها الأحد الماضي، وحدده بين 13 ألف ليرة للشراء، و13130 ليرة للبيع، بعدما كان قد سجل 35000 ليرة مع بدء العمليات العسكرية، ثم انخفض إلى 15000 ليرة في الأيام التي تلت سقوط الأسد.

وترافق هذا التحسن مع عودة عشرات الآلاف من المهجرين والمغتربين، وإلغاء العمل بمراسيم منع تداول العملات الأجنبية التي كانت تخضع المخالفين لعقوبة السجن، الأمر الذي من شأنه أن يعزز «مرونة الدولرة»، خصوصاً بعد إصدار المصرف المركزي القرار رقم 1683/ ل الذي ألغى العمل بالمنصة الإلكترونية الخاصة بتسجيل طلبات تمويل المستوردات وتثبيت سعر بيع القطع الأجنبي. والقرار 1684/ ل الذي وضع آليات لإعادة عائدات القطع الأجنبي الناتجة عن التصدير إلى النظام المصرفي السوري، وذلك في خطوة تهدف إلى ضمان تدفق النقد الأجنبي نحو خزينة الدولة لدعم الاحتياطي. وهو أمر أساسي ينعكس إيجاباً على اقتصاد سوريا الجديد والاستقرار النقدي، وإعادة الإندماج مع النظام الاقتصادي العالمي. ومن الطبيعي أن يساعد القرار الأميركي الذي أتخذ مؤخراً بتخفيف العقوبات تدريجياً، وكذلك القرار الأوروبي المرتقب برفع العقوبات، عن سوريا، في تحقيق هذا الهدف.

*كاتب لبناني متخصص في الشؤون الاقتصادية.