ذُهل العالم في الخامس من مارس الماضي عندما أصدرت محكمة العدل الدولية بياناً أعلنت فيه قيام السودان برفع دعوى بحق دولة الإمارات وتطالب المحكمةَ باتخاذ عدد من الإجراءات الاحترازية العاجلة، وقبول التقاضي الدولي المتعلق بالنظر في الشكوى المقدمة.
وقد رفضت الإمارات بشدة هذه الاتهامات، وقالت بأن محكمة العدل الدولية ليست مكاناً لتهريج سياسي من هذا النوع. ولعل مصدر الذهول هو إصرار حكومة الأمر الواقع العسكرية في السودان على السير في الاتجاه المعاكس بخلاف قواعد القانون الدولي، واختصاصات محكمة العدل الدولية.
وقد اتضح للإمارات، ومنذ اللحظة الأولى لرفع القضية، مستوى الفهم المعرفي والاحترافي المحدود الذي يمتلكه أعضاء الفريق القانوني السوداني بقيادة وزير العدل في حكومة الأمر الواقع العسكرية، وافتقارهم الشديد لفهم قواعد القانون الدولي واختصاصات المحكمة المنصوص عليها في نظامها الأساسي.
لقد استندت دعوى الفريق إلى «اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية» في التأسيس للقضية، رغم علمه بتحفظ الإمارات على المادة التاسعة التي تمنح المحكمةَ الدوليةَ سلطةَ التقاضي الدولي الخاصة بتلك الاتفاقية، في محاولة لإحداث ضجة إعلامية تتيح له فسحة من الوقت لتدارك الإخفاقات السياسية والعسكرية، ولتضليل الرأي العام حول تلك القضية، بعد الإدانات الدولية التي حمّلت القوات المسلحةَ السودانية، وحلفاءَها من الجماعات الإرهابية، المسؤوليةَ الجنائيةَ عن الكثير من جرائم الحرب المرتكبة في السودان منذ اندلاع الصراع المسلح فيه قبل عامين، لاسيما تلك الجرائم التي وقعت منذ بداية عام 2025، وراح ضحيتها الآلاف من المواطنين السودانيين.
خلال جلسات المحكمة التي امتدت ليوم كامل، استمعت المحكمة إلى الفريق القانوني لكلا الطرفين، وبدا عرّاب تلك القضية، أي وزير العدل في الحكومة العسكرية السودانية، محرجاً بعد أن أُسقط في يده، وبدا حائراً في تكييف تلك القضية دون وقائع وغير قادر على إقناع المحكمة بقبول الدعوى دون أدلة.. فالأدلة لم تساعده، والكلمات لم تسعفه، وعاش لحظات من الحيرة وهو يحاول إقناع المحكمة بما هو ليس مقتنعاً به، ثم عانى فريقه القانوني وهو يعيش حالةً من التيه القانوني بعد أن استحالت عليه حجج القانون في خلق القناعة اللازمة لدى المحكمة، وبعد أن فقد القدرةَ على خلق سردية مقبولة لقضية هي في الأصل ليس لها وجود.
فالجريمة التي يتحدثون عنها لم تقع، وليس لها إثبات إلا في أدبيات تلك الحكومة العسكرية وإعلامها، وهي لا تعدو أن تكون مزاعم وادعاءات، فالمسؤولية القانونية والسياسية والجنائية فيها تقع على القوات المسلحة السودانية نفسها، بحكم تمثيلها سلطةَ الأمر الواقع بالسودان، والتي كان يتوجب عليها حماية المدنيين وتأمين سلامتهم. ما لا يعرفه عرّاب تلك القضية وحكومته العسكرية، أن محكمة العدل الدولية لا يمكنه أن يوجهها كيفما شاء، فلم يسبق لها أن قبلت التقاضي الدولي في ظل تحفظ الدول على تلك المادة، إلا بقبول طرفي الدعوى وسماحهم للمحكمة بالسير فيها، وهي حالة فردية لا يمكن الاعتداد بها. كما أن المحكمة رفضت العديد من القضايا المرفوعة أمامها تأسيساً على تلك الاتفاقية، رغم عدم تحفظ تلك الدول على المادة التاسعة المعنية بالتقاضي الدولي. كان الأجدر بالقوات المسلحة السودانية أن تواجه واقعها، وليس الهروب منه، فالتعاون مع محكمة الجنايات الدولية وضمان تسليم ومحاكمة جميع مجرمي الحرب، هو ما ينتظره العالم منها.
*كاتبة إماراتية