في رمضان كان للمرأة طقوسها الغذائية، وكان للوجبات رائحة، ومعنى، وطيب خواطر، ومزاج رائق، ورونق في العطاء.
في رمضان منذ الصباح، وبعد أن غفت لساعات قصيرة ليلاً تنهض المرأة وبنشاط، جسدي، مدفوع بحيوية نفسية، وتعمل لساعات طوال في إعداد أكلات ربما غابت في أشهر السنة الاعتيادية، وتبرز في شهر رمضان، كطيور تحلق في خيال المرأة، وترفرف بأجنحة الإثارة النفسية، ودوافع الحفاوة لضيوف الشهر، وهذه الأكلات بعضها يحتاج إلى زمن كي يتم إعدادها، وتوضيبها، وترتيبها، وتوفير كل ما تحتاج إليه من بهارات، ومعطرات، وأهمها أطباق الهريس، وهي الوجبة الرئيسية، ورائدة المائدة الإماراتية، ثم تليها باقي الأطعمة والتي لا تقل أهمية، عن الهريس، ولم تكن سيدة المنزل هي المكلفة بإعداد كامل الوجبات، وأنواعها، بل إن الفتيات الصغيرات، يكون لهن دور محوري في أداء واجبات الأكل الرمضاني، وكن يواظبن في المطبخ كتفاً بكتف مع الأمهات، بل في أغلب الأحيان يكون دور الأمهات إشرافياً في إعداد بعض الأكلات، وهن المايسترو أيضاً، حين كن يراقبن عن كثب، ويتابعن باهتمام بالغ، ويصححن الأخطاء إن طرأت، ويوجهن، ولا يستقر لهن بال إلا بعد الانتهاء من تلك العمليات الكيميائية المعقدة، والتي تواجهها الفتيات الصغيرات، ولكنهن يؤدين الخدمة عن طيب خاطر، وبمزاج محمول على أكتاف طموحات عميقة، فكل بنت تتمنى أن تنجز ما يرضي الأم، وكل بنت تتوخى أن تتخرج من مدرسة الأم وهي مكتفية بما يرضي تطلعاتها، كزوجة في المستقبل، وهي الرغبة نفسها التي تملأ قلب وعقل كل أم، بأن تصبح ابنتها متسلحة بأهم سلاح يرضي الزوج، ويملأ فؤاده بالقناعة بزوجة تحمل أعباء البيت، وتفي بما يحتاج إليه الزوج والأولاد.
فلم يكن في ذلك الزمان كنتاكي، ولا بيتزا، ولا هارديز، بل كان الموقد الطيني، وخشب النار، وقدور الطهو، وكانت الإرادة القوية تقود هذه المستلزمات الحياتية، والعزيمة الصلبة، وحب الحياة من دون نمارق، ولا زرابي، واستراحت من غي، ومن طغيان مفسدات الدهر.
هذه المرأة الخارقة هي المرأة الباسقة التي علمت، ودربت، وهذبت، وأعطت من عمرها كي نرى اليوم بناتنا يتبوأن أعلى المناصب، والبنيان شاهق، والفكر ناضج، والأحلام زاهية، والتطلعات لا تعيقها عراقيل، ولا تعرقلها عقبات، بل الطريق مفتوح للمدى، الطموحات تسير على الماء البارد، وتدفئ احتياجاتها بذكاء أنثوي مصقول بأنفاس اللاتي أعطين بصدق، ومنحن بوفاء، فاعتلى غصن الشجرة، وتفرعت، وأثمرت، وأصبحنا اليوم نمعن النظر في حزام أنثوي أخضر، يعطي الوطن بسخاء، ويضحي، ويجد، والقافلة مستمرة في السير قدماً نحو المستقبل بثقة، وثبات.