كان رجلاً قصيراً، لكنه بصير، لا تعرف له لون، فهو يحفر القبور، وينطل التراب ويشتغل مع البنائين، ويهيس على الثور، ويحرث «النخل، والمرايغ»، و«يعابل النخيل»، ويردّ الفَليّ ويخلب ويحَدْرّ ويخرف وأييدّ ويكنز التمر، تجده يفزع حين تخرج الوخايف من تنور الشوي وهي تَصِلّ من وهج حطب السمر والنار التي باتت تتطابخ في تنور عيد العود «الأضحى» لليلة ونصف النهار، وفي بداية الصيف يعمل «مجّري» ينقل نساء أهل الساحل إلى العين، كان يعمل في كل شيء وتحت الشمس، لذا أخذ لوناً لا يمكن أن تصفه؛ فيه من حرارة الشمس، وغبرة التراب، ورماد الحريق، لذا لقبه الناس بـ «الغَبَرّ» حتى التصق باسمه، لأن أسماء الرجال كانت متشابهة وقليلة في ذاك الوقت، فكان لا بد من ذلك النعت أو «اللبوكَة» المُلحقة للتمييز، كان الناس حين يريدون شيئاً، ويحتارون فيمن ينجزه، يقولون: «ازّكرّوا رشود الغَبَرّ»! وإذا لم يتقن أحد عمله كما ينبغي، قال الناس: «والله الساع مب شغل رشود الغَبَرّ»!
وفي سنة من السنوات قرر أن ينضم إلى كشافة ساحل عُمان، شأنه شأن الكثير من رجال ذاك الوقت، فغادر للعمل في معسكر المنامة في عجمان، لكنه لم يجد هناك نداءات الناس التي يعرفها، ولا طلباتهم لأعماله التي اعتادها، ولا تلك الحظوة التي يحصل عليها بعد الانتهاء من كل شغل يقوم به، لم يجد إلا الأوامر العسكرية والضبط والربط العسكري والتي لم يتعود عليها، وكذلك الناس في أم السبع بلادين افتقدوا «راشد الغَبَرّ» وخدماته السريعة، ومعاونته الحاضرة وحسه أنه موجود في كل وقت، وفي المكان القريب، لذا وقبل أن تنقضي السنة رجع إلى ميدانه الذي يعرفه وترك عنه ميدان العسكرية.
ظل سنوات يقدم عمله ذاك، وزاد عليه شراء سيارة «بسطة تفنيش الجيش» والذي يخدم عليها في توصيل الأهالي إلى مستشفى «كَنَد»، والطلاب الجدد إلى مدرسة النهيانية أو مدرسة مالك بن أنس، وأيام الأعراس يحطب ويَشلّ فيها حطب من هالسيوح أو يستأجرها المعرس لحمل زهّبَة العروس بعد أن يرفع عليها «بنديرة أبوظبي»، وفي سنة من السنوات ركب فيها حجاج وقطع بها كل هذه الرمول حتى مكة والمدينة وردهم بعد شهر ونصف شهر.
كان مغامراً، ولا يعتذر عن أي شغل أو طلب، لكنه في أواخر أيامه أصيب بالعشو الليلي، حتى مرة وهو راجع من النخل في أيام الصيف، وكان الناس ينامون في العراء وتحت أشجار بيوتهم أو بمحاذاة النخل، عَفَدّ على حريم نائمات على المنامة المصنوعة من جذوع النخل وسعفه، ولم يعرف الناس ساعتها أنه لم يقصد، وأنه مصاب بالعشو ولا يقشع في الليل، «يَضّت» البلد والناس، ولولا تدخل القاضي ومطوع الحارة اللذين لا ينكران صدق وأمانة «رشود الغَبَرّ» وتجاربهما السابقة معه، وتصديق الناس لكلام القاضي وثقتهم في المطوع، وإلا كانت تغيرت نهاية «الغَبَرّ» الذي قرر ترك المكان مؤقتاً، والزواج من هندية شابة بعد سفرة امتدّت لأشهر، والعودة والسكن بعيداً قليلاً في بيت جديد، لكنه حرص طوال حياته المتبقية أن يعدل بين بيته القديم والبيت الجديد.