كل صباح حين أستيقظ أجلس في حديقتي وأبدأ في ممارسة التنفس العميق، وأستغرق في التأمل لإيقاظ خيال الشاعرية. لأن التأمل يشبه حركة الغوص العميق إلى قاع الماء للقبض على حبة رمل، أو التحديق في الجزئيات متناهية الصغر.
إنه الانسحاب من عالم خارجي مليء بالتناقضات والضجة، إلى عالم الذات. للإنصات العميق لحركة الوجود داخل النفس. فالتأمل ارتحال مع فكرة أو صورة أو مشهد، لمعرفة ماهيته وما يحيط به وما يكونه. وهو التواشج الحميم مع النفس وحديثها وبثها.
والتأمل يستند إلى عناصر المعرفة الكلية التي تكوِّن شخصية المتأمل وبناءه الداخلي، وهو أحد أهم تجسدات الأنشطة الخلاقة للدماغ البشري، إذ به تنبني العلاقة الأكثر متانة بالمعرفة والواقع والذات والإبداع. 
إلا أن التأمل كفعل، تحققه اشتراطات لا تتوافر في محيط الكل، إذ إن من شروطه، قدرة المتأمل على الخلود إلى النفس في عزلة مكانية وزمانية ونفسية. إنه القدرة على أن تجلس وحيداً تماماً، على مدى ساعات أو أيام، دون أن تستشعر الوحشة والأنس بالنفس لاكتشاف عوالمها وكينونتها. أن تتحد معها وتتألق في حضورها. لأنك بذلك تنقّي شوائبها، وما علق بها من الواقع، كي تنمو في عافيتها، رخية، مكتنزة وعميقة، في التأمل ينصت العقل والنفس إلى حركة الوجود في تبدلاته وإدراك أسراره العميقة. والتأمل ليس هو العزلة وهجر الحياة ومسراتها، بل هو فعل التلذذ بالحياة ومسراتها وبالناس والمحبة. في التأمل نرى بالبصيرة، ونسمع بالصمت، وندرك بالحدوس، ونهجس بالروح.
في النفس تتبلور شخصيتنا وماهيتها. لكننا قد لا ندرك ذلك التشكل في الغياب. وقد لا نعرف شخوصنا ونفوسنا وكينونتنا في عمقها. وما نعتقد أننا نعرفه عن أنفسنا للدلالة على كليتنا الإنسانية في فرديتها، محض التباس. وهذا الالتباس يوقعنا في التناقض معنا أوفي الازدواجية. إن تجسداتنا الخارجية لا تشي دائماً بدواخلنا، إذ تطغى المقولات التي تبرمجنا منذ الطفولة وفق ما تريد، وتصيرنا وفق ما لا نريد، في أعمق أرواحنا ورغباتنا وأحلامنا، بل في ما تؤهله لنا الطبيعة كي نكون. إننا محمَّلون بالعقد والكبوتات، بينما نعتقد منذ الصباح إلى المساء أننا أسوياء في مشاهد الحياة اليومية، الكثير من الغرابة بالنسبة إلى إنسان متأمل، فالناس عامة لا تكفّ عن الضجيج وافتعاله واستدعائه، إنهم لا يهنؤون لحظة في حضرة الهدوء والصمت والتأمل والتوحد مع النفس!