اخترقت النرويجية الشقراء نسيج كابول. عاشت خمسة أشهر بين أفراد أسرة أفغانية، راقبت خلالها دقائق الحياة، وتفاصيل العلاقات، ودواخل الأحلام والطموحات. وخرجت، بكتاب هو وثيقة سردية عما لا تذكره وسائل الإعلام، عن المجتمع الأفغاني في مراحل تحولاته المثيرة والدموية، من النظام الملكي، إلى الحكم الشيوعي، إلى مرحلة الجهاد ضد السوفييت، فالحرب الأهلية، ومن ثم حكم “طالبان”، إلى سقوطها تحت ضربات التحالف الدولي الغربي. في بيت سلطان خان، الناشر الأفغاني، عاشت آسني سييرستاد مع زوجاته وأولاده وإخوانه وأخواته. وعنهم، وعبرهم عن بلادهم ومجتمعهم، أصدرت كتابها “بائع الكتب في كابول”. كانت حكاية هذا الكتبي، هي المختصر المفيد لتقلبات الأحوال في بلاده. فقد أحرق الشيوعيون مكتبته، لأن معروضاته كانت تتجاوز محددات الفكر الماركسي اللينيني. ثم أحرق المجاهدون المكتبة، خلال الحرب الأهلية، بسبب عدم مواءمة الكتب المعروضة لتفكيرهم. وعندما حكمت “طالبان” أحرقت المكتبة وأهين صاحبها واعتقل، لأنه يخالف منهجهم الفكري وقوانينهم الصارمة. تلك القوانين، وما تفرزه على مستوى القيم الاجتماعية والعلاقات الناشئة عنها، سوف تكون محور كتاب آسني سييرستاد، خصوصا لجهة وضعية المرأة داخل المجتمع الأفغاني: كائن افتراضي يغيب داخل جدران البيت خلف سيادة الرجل، ويغيب في الخارج خلف سيادة “البوركا” (الغطاء الأفغاني المحكم للنساء). تلفت في “بائع الكتب في كابول”، قائمة بالممنوعات التي فرضتها سلطة “طالبان”. نصف النواهي خاصة بالنساء. وبعضها غريب مثل منع انتعال الأحذية ذات اللون الأبيض. لكن أغربها هو تحريم استعمال الطيّارات الورقية. لم تناقش المؤلفة هذه المسألة، وكأنها تركت المهمة لمؤلف أفغاني مهاجر. طبيب يعمل في الولايات المتحدة الأميركي، كتب رواية تحت عنوان “عدّاء الطيارة الورقية”. حقن خالد حسيني روايته، التي تحولت إلى فيلم بالعنوان نفسه، بنوستالجيا شاعرية عن أفغانستان التي عاشها طفلا مبهورا بالطيّارات الورقية، وخبيرا بارزا بين أقرانه في “تطييرها” إلى أبعد المديات. كان سكان كابول مهووسين بهذه الهواية الجميلة. يقيمون لها المواسم والمسابقات. ويتفنن المتبارون بتزويق طيّاراتهم. هواية بلا عنف أو تحديات سقيمة. يجعل منها حسيني ذريعة لكتابة قصيدة سردية عن أفغانستان المغتربة داخل حدودها، والغريبة في مجتمعات الآخرين. لا يطلّق خالد حسيني ماضيه، لأنه ببساطة لا يستطيع التخلّص منه. يقول: “مخطئون فيما قالوه عن الماضي. لقد تعلّمت كيف أدفنه، إلا أنه دائما يجد طريق عودته”. لذلك، فهو ينهي روايته، كما بدأها، مع الطيّارة الورقية. في كتابي آسني سييرستاد وخالد حسيني، تتبدى أزمة الهوية، عندما تصبح أزمة الحاضر والمصير. الهوية، كما هي لدى الأفغانيين، ليست مجرد انتماء إلى بقعة جغرافية، كتبت الصراعات والحروب تاريخها، وصاغت الديانات والأفكار ملامحها الإنسانية.. هي قبل ذلك وبعده، سؤال المستقبل. وهو سؤال لم تتم صياغته بعد. الطريف إننا لا نقع في الكتابين، على سبب ولو غير مقنع، لكي يتم بموجبه تحريم الطيّارات الورقية. ولا تقدم أي مصادر أخرى مثل هذا السبب. لكن تعليقا ساخرا يعطي أبعادا “استراتيجية” للموضوع. يقول إن تحريم “طالبان” للطيّارت الورقية، امتد إلى قوتها العسكرية، فلم تحاول أن تنشئ سلاحا جويا يصد العدوان. وبدلا من ذلك انشغلت بصد الأولاد عن لعبة تطلق مخيلاتهم إلى رحاب الفضاء. ولو أدركتنا “طالبان” في سنوات التخيّل والمخيلات، لجعلتنا في عداد الفاسقين المفسدين في الأرض والسماء، ومعنا فيروز التي جعلت من طيّاراتنا أغنية من ورق وخيطان! adelk58@hotmail.com